|
|
1- مسيرة استقلال المغرب:
منذ بدء العمل بنظام الحماية واقتسام النفوذ رسميا بين الدولتين الحاميتين، فرنسا وإسبانيا سنة 1912، عرف المغرب مجموعة من الأحداث المتعلقة بمقاومة هذا النظام تصنيفها تقليديا في ثلاثة أشكال للكفاح الوطني:
1- المقاومة المسلحة بقيادة مجموعة من الزعامات القبلية.
2- والحركة الوطنية بقيادة نخبة متعلمة.
3- وحركة المقاومة وجيش التحرير.
وما تتسم به العينة الأولى هو أنها استمرار وتشديد للمقاومة، التي أبداها المغاربة ضد التسرب الأوربي قبل الحماية. وحركة القياد أمثال موحى أوحمو الزياني بالأطلس المتوسط، و عسو باسلام و زايد أوسكونتي بالأطلس الصغير، أو حركة محمد بن عبدالكريم الخطابي في الريف، كانت محاولات انتهت بتشديد الحمايتين قبضتهما على المغرب. إنها المقاومة المحكومة بالوازع البطولي أو الملحمي، مقاومة يتداخل فيها الجهاد بالدفاع عن الشرف والعرض وتحصين المجال القبلي من الدخيل الكافر الذي لا ينتمي لأمة الإسلام.
لقد سجلت هذه الحركات انتصارات ثم هزائم، لكن الهزيمة كانت مآلها النهائي أمام جيوش الحمايتين وبالتالي قبولها بالأمر الواقع.
والحركة الوطنية المغربية، كانت حركة بقيادة نخبة جديدة، يطغى على تركيبتها عند انطلاقتها الحضور الطلابي، ويتحدر أغلبها من الحواضر التقليدية التي احتكر المتحذرون منها الوظائف المخزنية، أي أنها حركة تتوفر على رصيد اجتماعي و ثقافي مكنها من التنظيم خصوصا عبر احتكاكها بفرنسا والثقافة الفرنسية.
لقد كانت هذه النخبة الجديدة خاضعة لتأثير مزدوج: التأثير الشرقي الذي برز بشكل قوي جدا في خطابها حول الهوية الوطنية وانتماء المغرب الحضاري. و قد برز التأثير الفرنسي على النخبة الجديدة في الأشكال التنظيمية لأنشطتها الوطنية عبر التنظيم الحزبي والتنظيم النقابي والجمعيات والنوادي.
لقد تدرج عمل هذه النخبة الناشئة، والمؤطرة للعمل الوطني في المغرب خلال عهد الحماية، عبر مجموعة من المحطات انطلاقا بالعرائض المرفوعة في صيف 1930، احتجاجا على ظهير 16 ماي، الموقع من طرف فئة من نخبة مجموعة من المدن، مرورا بتأسيس تجمع جديد أطلق عليه "كثلة العمل الوطني" كتنظيم جامع للممارسين الناشئين للعمل السياسي الوطني، وتقديم مطالب الشعب المغربي في 1 دجنبر 1934، وتقديم المطالب المستعجلة في 25 أكتوبر 1936، وأحداث 1937، التي انتهت باتخاذ مجموعة من الإجراءات في حق الأطر القائدة للعمل الوطني منها الاعتقال أو النفي، ثم تأسيس حزب الاستقلال في 10 دجنبر 1943، وتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، وأحداث 29 يناير 1944 و7 أبريل 1947، وأحداث 7 و 8 دجنبر 1952، ثم 20 غشت 1953 يوم منفى السلطان سيدي محمد بن يوسف والأسرة الملكية. ومحادثات ايكس ليبان في الأسبوع الأخير من شهر غشت 1955، وانتهاء بتشكيل حكومة البكاي الهبيل في 7 دجنبر 1955.
وقد كانت حركة المقاومة وجيش التحرير تنظيمات تطوعية لمجموعة من الشباب والكهول، نشطت بشكل أساسي بين خريف 1953 وربيع 1956. إن هذه الفئة هي التي شغلت المجال وسدت الفراغ، الذي تركته قيادة الحركة الوطنية بسبب تعرض قادتها للاعتقال بعد أحداث 7 و 8 دجنبر 1952.
ما يميز الحركات الثلاث عن بعضها هو موقفها من نظام الحماية وعلاقتها بهذا النظام. لقد انبنت علاقة حركة المقاومة المسلحة – ماعدا حركة محمد بن عبد الكريم الخطابي- بالحماية على القطيعة السابقة، فلم تكن هناك علاقة او اتصال بين تلك الحركات ونظام الحماية قبل الاحتكاك المسلح بينهما بعد الشروع في العمل بمعاهدة الحماية. لقد بنى كل من موحى أو حمو الزياني وعسو باسلام وزايد اسكونتي مواقفهم على رفض نظام الحماية والدخول معه في خيار المواجهة المسلحة من أجل محاربة تدخله في مناطق انتمائها ونفوذها، وقد واصل الزياني المواجهة إلى غاية وفاته دون توافق مع هذا النظام، أما عسو باسلام وزايد أسكونتي فقد انتهيا، بعد الهزيمة التي لحقت بحركة كل منهما، بالتطبيع مع هذا النظام والقبول بنفوذه على مناطق نفوذهم السابقة.
وانبنت علاقة الحركة الوطنية بالحماية على الاعتراف التلقائي للأولى بالثانية، بينما كان الهاجس هو حصول الحركة الوطنية على اعتراف الحماية بها. لم تكن تسعى الحركة الوطنية إلى إلغاء معاهدة الحماية قبل أن تكرس نفسها وتحصل على الاعتراف بشرعية وجودها وبتنظيماتها الرسمية والموازية، لقد حاولت الحصول على الاعتراف الرسمي بها من خلال التقرب من السلطان سيدي محمد بن يوسف، وإقدامها على سن مجموعة من التقاليد الوطنية مبادرات مثل تقليد الاحتفال بعيد العرش. شغلت الفراغ السياسي على المستوى الشعبي بالعمل على مطالبة الإقامة العامة ومصالحها المحلية باحترام روح نص معاهدة الحماية، وما يطوق به الدولة الحامية من التزامات.
لم يسبق للحركة الوطنية أن طعنت في نظام الحماية، سواء قبل 1944 أو حتى أثناء تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال. فمنذ 1930 والحركة الوطنية تواجه الإقامة العامة بالاحتكام إلى بنوذ نص معاهدة الحماية، الموقعة في 30 مارس 1912، وحتى وثيقة المطالبة بالاستقلال لم تطعن في معاهدة الحماية ولا في روحها، بل طعنت في مآلها، أي تحول نظام الحماية الفرنسية على المغرب إلى إدارة مباشرة.
إن الشريحة القائدة للحركة الوطنية المغربية كانت أكثر الفصائل المغربية المكافحة قربا من نظام الحماية الذي كان يراها الأكثر تسيسا وتواصلا معه، وبينهما سيجري التفاهم في صيف سنة 1955 على مصير معاهدة الحماية والمستقبل السياسي للمغرب وللعلاقالت الفرنسية المغربية.
أما حركة المقاومة وجيش التحرير، التي ترعرع أغلب الفاعلين في صفوفها وسط مجتمع خاضع لنظام الحماية منذ عقود، فقد بنت موقفها على رؤية استئصالية لهذا النظام، وحملت مطلبا مزدوجا: عودة السلطان سيدي محمد بن يوسف كرغبة نقيضة لما كان يسعى إليه نظام الحماية، في أخر شهوره من فرض نظام سلطان بديل، واستقلال المغرب.
لقد كان بروز هذه الحركة خلال مدة قصيرة وتكريس وجودها عبر العمل المسلح كطرف داخل أسرة الكفاح الوطني المغربي خلال السنتين الأخيرتين من عهد الحماية بمثابة عامل حاسم في الاعتراف بها وبقوة تأثيرها مما ساعد على اعتبار و جدودها، والتعجيل بالمسلسل السياسي لحل الأزمة الفرنسية المغربية في صيف 1955 عبر محادثات إيكس ليبان (22-27 غشت 1955)، التي لم يجري فيها، خلافا لما هو شائع، الإعلان عن استقلال المغرب وطبيعة العلاقات الفرنسية المغربية، ثم عبر عودة السلطان سيدي محمد بن يوسف من المنفى إلى مدينة باريس وإجراء محادثات بسان كلو بين السلطان المذكور ووزير الشؤون الخارجية الفرنسي، انطون بيناي، توجت بتصريح 6 نونبر 1955، التي رسمت إطارا جديدا للعلاقات بين فرنسا والمغرب.
لم يجر الاتفاق على استقلال المغرب وتحديد طبيعة العلاقات الفرنسية المغربية في محادثات إيكس ليبان، كما يعتقد البعض خطأ، بل إن ذلك لم يجر إلا في 2 مارس 1956 من خلال التصريح الفرنسي المغربي المشترك، الذي توج مفاوضات الوفد المغربي برئاسة البكاي مع الوفد الفرنسي برئاسة وزير الشؤون الخارجية الفرنسي. ولم يجر استكمال هذا المسلسل إلا بالاتفاقية المغربية الفرنسية الموقعة من طرف أحمد بلافريج، وزير الشؤون الخارجية المغربي، ونظيره الفرنسي كريستيان بينو في ماي 1956.
لقد كان التاريخ الفاصل في هذه المسيرة هو ما حصل منذ 20 عشت 1953 يوم عزل ونفي السلطان سيدي محمد بن يوسف، وهو اليوم الذي أطلق عليه بعد الاستقلال "ذكرى ثورة الملك و الشعب". فقد كان الاعتقاد السائد هو أن تغيير السلطان سيدي محمد بن يوسف بسلطان آخر، هو الحل لاستمرار نظام الحماية و ضمان هذا النظام لمشاريعه، التي رغب في إدخالها من أجل الاستدراك والتكيف مع الوضع العالمي الجديد وبالتالي بقاء المغرب محمية فرنسية وإسبانية. فقد أصبح العرش إذا محل مساومة من طرف نظام الحماية، الذي هو ملتزم بموجب معاهدة 30 مارس 1912 بحماية العرش. وهكذا سيجري نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف يوم 20 غشت 1953 إلى جزيرة كورسيكا، ويوم 30 يناير 1953 إلى جزيرة مدغشقر.
1-ثورة الملك والشعب هي ثورة على ماذا:
إن مسلسل تكوين حدث 20 غشت 1953، انطلق مع الخطاب الذي وجهه السلطان سيدي محمد بن يوسف بمدينة طنجة يوم 10 أبريل 1947، وهو الخطاب الذي نص على شخصية المغرب التي لا يمكن أن تكون استنساخا للنموذج المفترض في سياسة الحماية، ونص على سيادة المغرب التي لا يمكن أن تكون مفوتة مستقبلا في إطار الاندماج- أو الإدماج- في نظام الاتحاد الفرنسي المنصوص عليه في دستور الجمهورية الرابعة الفرنسية. وقد كان لهذه السياسة التي يمكن أن يحدث التطور في إطارها حسب تصور حكومات الجمهورية الربعة إطار قانوني صريح في النص الدستوري المشار إليه. فالمادة 60 من دستور الجمهورية الرابعة، الذي سرى العمل به منذ انتخابات أواخر 1946، تنص على :"يتكون الاتحاد الفرنسي من الجمهورية الفرنسية التي تضم فرنسا المتربول وأقاليم وأراضي ما وراء البحار من جهة والأراضي والدول المشاركة من جهة أخرى"، وتنص المادة 64 من نفس الدستور على: "رئيس الجمهورية هو رئيس الاتحاد الفرنسي الذي يمثل مصالحه الدائمة"، وتنص المادة 65 من الدستور نفسه: "يتكون المجلس الأعلى للاتحاد الفرنسي تحت رئاسة رئيس الاتحاد من مفوضية للحكومة الفرنسية ومن ممثليات تتمتع كل دولة بصلاحية تعيينها لدى رئاسة الاتحاد".
إن معارضة هذا النظام بدت صريحة في الخطاب الملكي بمدينة طنجة، ذلك أن للمغرب إرث حضاري، ورصيد تاريخي يمكن أن يستخرج منه عامل محدد للهوية، وللمغرب أيضا، كيانا وشعبا، وسيادة حسب التعريف القانوني للعصر ينبغي أن يجري استرجاعها والتمتع بها وممارستها في مختلف تجلياتها، كما أن المغرب مهدد في وحدته إذا ما طبقت عليه مقتضيات الجمهورية الرابعة الخاصة بالإتحاد الفرنسي، لأن كل التراب المغربي ليس تحت حماية دولة واحدة، بل هو تحت حماية دولتين بالإضافة إلى منطقة طنجة الخاضعة للنظام الدولي، وكل تطور في اتجاه الاندماج في الاتحاد الفرنسي يعني الإقرار بالوضع القائم والقبول به وبالتالي تفويت السيادة المغربية على الأقاليم الشمالية والأقاليم الجنوبية الخاضعة للحماية الإسبانية وعلى منطقة طنجة التي توجد بها إدارة دولية.
إن حدث هذا الخطاب هو عربون مرحلة جديدة في علاقة المغرب بنظام الحماية. فمنذ أن أصبح الجنرال الفونس جوان، مقيما عاما على المغرب في 15 ماي 1947، ردا على الخطاب والأفق الذي رسمه، دخل المغرب مسلسلا آخر من اختبار القوة، وأصبح الموقف الفرنسي من القضية المغربية يتحدد في الموقف من شخص المغفور له محمد الخامس. و هكذا ستحصل متوالية من الأحداث أفضت في النهاية إلى تطورات نحو تكريس خيار المقاومة، الذي جرى الاقتناع بجدواه و أولويته مند سنة 1947.
وفي شهر أكتوبر 1950، توجه السلطان في زيارة عمل إلى مدينة باريس سلم خلالها مذكرة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية فانسان أوريول، وسيسلم مذكرة أخرى في سنة 1952، وهما إشارتان إلى رفض نظام الاتحاد الفرنسي وتأكيد مضمون خطاب طنجة، الذي يعتبر مطلبا صريحا بممارسة المغرب لسيادته، أي أن يتمتع المغرب بوضعه كدولة مستقلة.
لقد تخللت هذه المسيرة حلقات من المواجهة ولاسيما في سنتي 1951 و 1952، واستفحل الأمر في أواخر 1952 في انتفاضة مدينة الدار البيضاء، وهي انتفاضة فجرتها الحركة العمالية تلقائيا يومي 7 و 8 دجنبر 1952، التي تعتبر الانطلاقة الحقيقية نحو الثورة المؤدية إلى الاستقلال. فخلال هذين اليومين، وما أعقبهما من رد فعل وطني ودولي تأكد انسداد أفق الحماية والسياسة الممكن أن تحل محلها في إطار الاتحاد الفرنسي. في هذا السياق يمكن قراءة حادث 20 غشت 1953 بعزل ونفي السلطان سيدي محمد بن يوسف، الذي أعقبته سنتان من المقاومة المسلحة أكدت تطوراتها السير نحو الاعتراف بحق المغرب في الاستقلال، وبمناسبة الذكرى الثانية لثورة الملك والشعب شهدت مختلف المدن المغربية من وادي زم إلى خريبكة وخنيفرة و أبي الجعد أحداثا دامية استوعبتها حكومة فرنسا، التي كان على رأسها الراديكالي إدغار فور، وهو رجل الدولة الفرنسي الذي احتج في يوم 26 غشت 1953 على قرار عزل ونفي سلطان المغرب في رسالة بعث بها بصفته وزيرا في الحكومة إلى رئيس الجمهورية فانسان أوريول.
لقد خلق المنفى أزمة قوية للشرعية، وظل السلطان المنفي هو السلطان الشرعي للمغرب. وقد كانت محاولة الحكومة الفرنسية التراضي مع السلطان المنفي لحل أزمة الشرعية محاولة يائسة لم تنجح في انتزاع تنازل من السلطان عن العرش؟
2-محمد الخامس و الحكومة الفرنسية ومسألة العرش في المنفى:
واصل السلطان سيدي محمد بن يوسف اتصالاته مع الحكومة الفرنسية منذ نزوله بمنفاه في جزيرة كورسيكا يوم 20 غشت 1953. وقد بعث إلى وزير الشؤون الخارجية الفرنسية، جورج بيدو، بتاريخ 24 غشت 1953، رسالة حول ظروف المنفى وعبر عن رغبته في الانتقال الى مدينة جامعية فرنسية كبرى لمواجهة إكراهات تمدرس أبنائه، وكرر السلطان هذا المسعى في رسالة بعث بها إلى رئيس الوزراء الفرنسي جوزيف لانييل في 30 يناير 1954.
لقد كانت تقديرات المصالح الفرنسية الملكلفة بالاستعلامات و الاستخبار تتجه إلى اعتبار أن هناك مخططا مغاربيا، بدعم مصري، يهدف إلى تنظيم تهريب السلطان سيدي محمد بن يوسف من منفاه نحو مصر، وإقامته بها كما حصل مع محمد بن عبد الكريم الخطابي، وبالتالي تنسيقه مع حركات التحرير المغاربية الناشطة بأرض الكنانة..
وضغطت الإقامة العامة للحماية الفرنسية بالرباط، عبر محمد بن عرفة، على السلطات الفرنسية، وطالبتها بإبعاد السلطان سيدي محمد بن يوسف عن جزيرة كورسيكا و عن فرنسا نحو إحدى الجزر التابعة للنفوذ الفرنسي بالمحيط الهندي أو المحيط الهادي. وعاشت الحكومة الفرنسية ضغطا بسبب كلفة إقامة السلطان سيدي محمد بن يوسف والجهة التي تتحملها، واستقر نظرها على السلطان الذي اعترض بدافع عدم اختياره للمنفى أو الإقامة في هذه الجزيرة، وبالتالي لا مجال لتحميله مصاريف هذه الإقامة. جعلت كل هذه العوامل الحكومة الفرنسية تقرر إبعاد السلطان المنفي إلى جزر تاهيتي بالمحيط الهادي، بعد تهيء إقامة خاصة بالسلطان والأسرة الملكية بهذه الجزر. وقررت أن تنقله كمرحلة أولى في إطار إجراء احتياطي إلى جزيرة مدغشقر بالمحيط الهندي، التي أصبحت المنفى النهائي للسلطان طيلة ما تبقى من مدة إبعاده عن العرش. بعد نزوله بجزيرة مدغشقر في فبراير 1954، أوفدت وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية الوزير المفوض ألبير لا مارل، في محاولة لإقناع السلطان بالتنازل عن العرش، مقابل التمتع بممتلكاته الخاصة. وكان لامارل مسنودا في هذه المهمة بالسيد المعمري مدير التشريفات السابق والليوتنان كولونيل تويا ضابط الدرك، الذي كان يشتغل في المخابرات الفرنسية.
استمرت مفاوضات السلطان سيدي محمد بن يوسف ومبعوثي الحكومة الفرنسية حول وضعيته النهائية من 21 مارس إلى 4 أبريل 1954. وانتهت هذه المفاوضات التي شارك فيها الأمير مولاي الحسن بتبادل الرسائل حول نتائجها بين السلطان المنفي وممثل الحكومة الفرنسية.
تضمنت رسالة السلطان سيدي محمد بن يوسف التزاما بالامتناع عن القيام بأي نشاط سياسي من شأنه المس بالنظام العام في المغرب وفرنسا وأقاليم الاتحاد الفرنسي، ورغبة السلطان في الإقامة بفرنسا، لكنها لا تتضمن أي إشارة، صريحة أو ضمنية، إلى التنازل عن العرش.
وتضمنت رسالة ألبير لامارل إقرارا بالسماح للسلطان باستقبال زواره وتلقي مراسلاته والتمتع رفقة أسرته وخدامه بحماية من طرف الحكومة الفرنسية على كامل التراب الملغاشي.
بعد تبادل الرسائل بين السلطان تباحث وزير الشؤون الخارجية الفرنسي، جورج بيدو، مع السفير الاسباني بمدريد، وسلمه نسخا من الرسائل المتبادلة بين السلطان سيدي محمد بن يوسف وألبير لامارل، والتمس منه أن يجري اتخاذ ترتيبات للحيلولة دون الدعوة باسم السلطان المنفي في مساجد المنطقة الخليفية التابعة للحماية الإسبانية بالمغرب. ورد السفير الإسباني بأن رسالة السلطان سيدي محمد بن يوسف لا تعني تخليه عن العرش، فليس هناك في رسائله ما يشير إلى ذلك، وأن الشكليات تقتضي بأن لا يجري التنازل عن العرش المغربي في رسالة موجهة إلى موظف في وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية، ولكن بموجب رسالة موجهة من السلطان إلى رعاياه وإلى السلطات المخزنية، أي رسالة موجهة إلى أهل الحل والعقد، زيادة على هذا فقد قدر السفير الفرنسي أن الرسالة انتزعت من السلطان في معزله بمدغشقر تحت الضغط والإكراه، وأن ظروف الحصول عليها تقلل من مصداقيتها.
وفي صيف 1954 بمناسبة وصول الراديكالي بيار مانديس فرانس إلى الحكم، كتب السلطان رسالتين يطالب من خالهما رئيس الوزراء الجديد بحل الأزمة التي يعانيها منها. ومنذ ذلك التاريخ تطور المسلسل نحو الحل السياسي للمشكلة المغربية. حيث واصل الرئيس إدغار فور، الذي وصل إلى رئاسة الوزراء في فبراير 1955 طريق حل المسالة المغربية عبر حل مشكلة العرش، التي انتهت بإعادة تنصيب السلطان سيدي محمد بن يوسف، كمدخل لحل الأزمة الفرنسية المغربية.
3-تكريس ذكرى ثورة الملك والشعب:
ثورة الملك والشعب تسمية تجمع عليها كل أطراف الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، وهي الأسرة الملكية والحركة الوطنية بشقيها النقابي والحزبي وحركة المقاومة وجيش التحرير.
في يوم 14 غشت 1956، استقبل المغفور له محمد الخامس، وهي التسمية الرسمية للسلطان بعد الاستقلال، وفدا عن المجلس الوطني للمقاومة بالإقامة الملكية بالوليدية، قرية الاصطياف الساحلية الموجودة على بعد مائة وسبعين كيلومتر جنوب مدينة الدارالبيضاء، وجاء الوفد يقترح إحياء ذكرى 20 غشت 1953. وتعددت الاقتراحات حول تسمية هذه الذكرى، بين المجلس الوطني للمقاومة والملك، وهذا التعدد لم تفت فرصة الإشارة إليه في البلاغ الصادر عن الديوان الملكي في الموضوع.
لقد تراوح الاقتراح لتسمية يوم 20 غشت بـ "يوم المقاومة والوفاء" كما اقترح ذلك المجلس الوطني للمقاومة، و" ثورة الملك والشعب" كتسمية اقترحها المغفور له محمد الخامس، وصدر بشأن ذلك بلاغ عن الديوان الملكي يحيط بجوانب اللقاء و نتائجه. " وافق جلالة الملك أعزه الله على إحياء ذكرى 20 غشت في مجموع المملكة المغربية، يقول بلاغ الديوان الملكي، وقد اتخذ هذا القرار على إثر الطلب الذي تقدم به إلى الأعتاب الشريفة المجلس الأعلى الوطني لحركة المقاومة وجيش التحرير. وقد سبق أن استقبل جلالة الملك المعظم وفدا عن المجلس الأعلى يوم 14 غشت بالوليدية ليلتمس من حضرة صاحب الجلالة أن يوافق على إحياء هذه الذكرى.. و بالفعل كان العاهل الكريم قد أعطى موافقته المبدئية، وفي هذا اليوم حظي بالمثول بين يدي صاحب الجلالة وفد عن المجلس الأعلى الوطني لحركة المقاومة وجيش التحرير و أكد أعزه الله موافقته، و كان قد سبق لهذا المجلس أن اقترح بأن يعطى لهذا اليوم اسم يوم المقاومة والوفاء ففضل حفظه الله أن يستبدل ب) يوم ثورة الملك والشعب(". وسيشير الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الثالثة لثورة الملك والشعب يوم 20 غشت 1956 إلى هذه التسمية الجديدة التي استقر عليها الرأي، وأصبحت الاصطلاح الرسمي المعمول به، كما أشار الخطاب نفسه إلى إدراج الذكرى كتقليد رسمي سنوي صمن لائحة المناسبات الوطنية التي يجري إحياؤها كل سنة "وها نحن نستقبل هذه الذكرى، يقول المغفور له محمد الخامس، التي أطلقنا عليها اسم: ثورة الملك والشعب والتي تقرر إحياؤها كل سنة".
وهذا القرار بسن حدث عشرين غشت كذكرى وطنية، يجري إحياؤها كل سنة، سيتأكد باستمرار في الخطاب الملكي. فالمغفور له الحسن الثاني لم يفته في الخطاب الذي وجهه يوم 20 غشت 1961، بمناسبة الذكرى الثامنة لثورة الملك والشعب، باعتبارها أول ذكرى لهذه المناسبة تخلد في عهده أكد فيه من جديد على هذا التقليد، وما يرمز إليه، وما يرتبط به، "و إن لنا موعدا مع التاريخ، يقول المغفور له الحسن الثاني، بل لنا سباقا مع الزمان فقد ألينا على أنفسنا أن نحافظ على تراث ثورة الملك والشعب"وسيصف في خطابه بمناسبة الذكرى الثلاثين لثورة الملك والشعب يوم 20 غشت 1983 بأن "عيد ثورة الملك والشعب"هو"يوم المقاومة الكبرى"الذي ألف المغاربة الاحتفال به كل سنة، كما جاء ذلك في الخطاب نفسه.
وسيتكرر التأكيد على هذه المناسبة في الخطاب الذي وجهه جلالة الملك محمد السادس يوم 20 غشت 1999، بمناسبة أول ذكرى لثورة الملك والشعب تخلد في عهده، بالتنصيص على ذكرى ثورة الملك والشعب كتقليد مستمر ضمن قائمة الذكريات الوطنية الرسمية، وكذكرى مشتركة بين كل مكونات الأمة "ونحرص، يقول جلالة الملك محمد السادس، على أن نؤكد أننا التزاما منا بالميثاق النضالي الذي سلمه لنا والدنا بعد أن تسلمه من جدنا يرحمه الله وإياه ومتابعة للبناء الشامخ الذي أقاماه و تشبثا بالآصرة المتينة التي تشدك إلينا و تشدنا إليك نحيي هذه الذكرى الوطنية المجيدة وسنواصل إن شاء الله إحياءها باعتبارها ذكرى للأمة كلها تحتم علينا على الدوام استحضار أرواح جميع المقاومين للتزود من جهادهم المتفاني والتذكير بما بدلوا من تضحيات كبيرة في شتى الأقاليم ومختلف المواقع".
هكذا إذا تكرس هذا الحدث في الذاكرة الوطنية المغربية واكتسى هذه التسمية وهذه الصفة وهذه الدلالات.
|